التوازن التربوي: أسسه الإسلامية وتجلياته في النُظم التربوية

د. يونس محسين

0 93

التوازن التربوي: أسسه الإسلامية وتجلياته في النُظم التربوية

د. يونس محسين

 

استهلال

 التوازن مبدأ كلي مطرد في سنن الله لا يتخلف عنه مجال من مجالات ، أو مخلوق من المخلوقات المسخرة  لتحقيق مبدإ الاستخلاف،  وحيث إن الإنسان جوهر الوجود الذي  أناط الله به الخلافة في الأرض، فلا مندوحة أن يتمثل هذا الأصل اعتقادا وتشريعا وسلوكا وامتثالا، وتربية وتعليما ليحيا حياة طيبة في العاجل والآجل.

والقول بضرورة التوازن  في شخصية  الإنسان يحيلنا على أبعاد شتى متعلقة بهذا المبدأ، منها التوازن بين مطالب  الدنيا والآخرة لقوله الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (القصص:77)،  كما ينسحب ذات المفهوم على التوازن  بين حق الله  وحق  النفس  وحق الغير و او بين حق النفس  وحق الأهل في القيام بالوجبات والوفاء بالالتزامات[1]،  أو التوازن بين العقل والروح والجسد…

والناظر في هذه الأبعاد  يلفيها مُتعالقة لا يفصلها فاصل، وإن توزعت في شعب الالتزامات والحقوق المتصلة بالإنسان أخذا وعطاء. وعلى الرغم من تنوع  هذا الأبعاد  فإن منشأها وأصلها الأصيل هو بالتوازن  في ذات الشخصية الإنسانية، لأن التوازن في أداء الواجبات والحقوق مرتهن بتحقق التوازن  في عناصر هذه شخصية  ابتداء وانتهاء.

واهتماما بهذه القضية، تروم هذه الورقة الإلماع إلى أصول توازن الشخصية الإنسانية في  المنهج التربوي الإسلامي؛  ورصد أثر هذا التوجيه الإسلامي المتوازن  في بناء النظم التربوية والتعليمية. وذلك وفق خطة ثنائية ناظمة لمحورين: أولهما: أسس التوازن التربوي في التصور الإسلامي؛  وثانيهما:  تجليات التوزان في النظم التربوية.

أولا: أسس التوازن التربوي في التصور الإسلامي 

أرسى المنهج التربوي الإسلامي أصولا ضابطة لتكامل  عناصر الشخصية الإنسانية  بما يحقق مطلب الانسجام والتآلف في تنشئة الإنسانية، وبالوجه الذي يعكس التوازن بين متطلبات الروح والعقل والجسد، ويجمع بين التربية الإيمانية والعقلية والجسمية والاجتماعية.

ولا شك أن هذه الرؤية لمفهوم الإنسان، تقتضي -في ظل النظرية التربوية الإسلامية- استصحاب مفهوم الوسطية وما تتضمنه من القول بتكامل الشخصية الإنسانية. فالإنسان عقل وروج وجسد و لابدَّ أن يجد كلُّ جانب منها موضعاً له في بناء الشخصيَّة وتنشئتها ولو بالحدِّ الأدنى ، ، بحيث تستهدف هذه العناصر برؤية نسقية دون استبعاد، وبنهج لا يترك منه شيئا ولا يغفل عن شيء من هذه الأبعاد وفق منظور متكامل ومتوازن.

ولعل أهم  يبرز   مركزية   التوازن في  التربية   الإسلامية،  أن المقصد من بعثة المربي والمعلم الأول للأمة  رسول الله  صلى الله عليه وسلم هو تنشئة الإنسان  بنهج  يجمع بين تأديب النفس وتزكية الروح وتثقيف العقل وتقويم الجسم، قال الله تعالى:  (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164).

فمنطوف النص صريح في الدلالة على أن البعثة المحمدية جاءت بفقه  تربوي  شامل ومتوازن، ومن ثم  كانت التربية الإسلامية متآلفة منسجمة معتدلة، وقد «عُدَّ هذا المزج أساسا للتربية العقلية، والتكوين الذهني في المنهج الإسلامي، الذي ربي عليه المسلمون، بدعوة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة»([2]).

فـ «الخطاب الديني الإسلامي في عمقه إنما يخاطب المسلم في بعده العقلي المعرفي والنفسي الوجداني وبالتالي العملي السلوكي، بمعنى أن عناصر الشخصية –في إطار الدرس الإسلامي – عندما نعمد إلى مساءلتها وإثارتها، فإننا ندفع بعملنا هذا نحو صيغة من التنظيم والضبط والعقلنة، فنجعل المتعلم يتمثل الخطاب الإسلامي على مستوى مراحل متدرجة وبتراتبية، وهو العمل الذي ميز المنهج القرآني في تبليغ الدعوة الإسلامية» ([3]).

 إن صفة التوازن والتكامل في بناء شخصيَّة الإنسان لا يمكن أن يتحقق بها الفرد حتى ينال كفايته التربويَّة من جميع جوانب الشخصيَّة: الإيمانية ، والأخلاقية ، والعقلية ، والنفسية، ، فتظهر على المسلم معالم التوازن بعد تزكت نفسه بالإيمان  الصادق الموجه للفكر والسلوك، ويتعزز التكامل بتعزيز التربية العقلية باكتساب العلوم والمعارف والمهارات النافعة في أرض الاستخلاف، ويترسخ توازن الشخصية بالعناية بالتربية الجسدية  لأن الجسد عطية الله  هو رداء العقل والروح.

ومن الواجب التنبيه أن إفراد كل جانب من هذه الجوانب بالحثّ على العانية لا يعني وجود قطيعة بينها، إنما  هو نظر وظيفي ينظر إلى أبعاد الشخصية الإنسانية بوصفها كلاّ لا يتجزأ؛  ولا يتحقق التوازن المطلوب إلا  باستهدافها  بنهج شمولي قاصد، ف«طريقة الإسلام في التربية هي معالجة الكائن البشري كله معالجة شاملة، لا تترك منه شيئا ولا تغفل عن شيء، جسمه وعقله وروحه»([4]).

واذا استصحابنا  هذه الرؤية التربوية الشاملة لمفهوم الإنسان أمكننا القول بأن أخطر المثالب  التربوية  في تاريخينا الإسلامي، تمثلت في منزلقات  ثلاثة: الإسلام الفكري، والإسلام الحركي، وإسلام الدروشة؛  وهي تصدعات تربوية أثرت على تنشئة الإنسان وفاعليته في عمارة الأرض.

فالإسلام الفكري وجه من العناية بالجانب العقلي دون مراعاة التوازن جوانب الشخصية الإنسانية في بناء الإنسان وتنشئته؛ والإسلام الحركي   هو مظهر من مظاهر العناية بالفعل الجسدي (المادي) و تغليب أثره في التغير والاصلاح، وإسلام الدروشة معلم من معالم الانزواء والعناية بتزكية النفس وإهمال جوانب الفكر والفاعلية الحركية. وهذه المزالق التربوية عنوانه البارز والمشترك هو الاخلال بالتوازن المطلوب.

وعليه، يكون التجديد التربوي المنشود مشروطا باستصحاب فقه التربية الإسلامية المستمد من الأصول التربوية  التأسيسية،  والاجتهاد في إعادة تشكيل الوعي التربوي وفق رؤية تحقق انسجاما وتكاملا بين مختلف عناصر شخصية الإنسان، وتوازنا بين أنشطته العقلية الروحية والمادية، الفردية والجماعية، الدينية والدنيوية؛ فلا انفصال بين هذه الواجهات التربوية والاستخلافية في التصور الإسلامي.

وهذا التجديد  التربوي االمقصود  مشروط   -كذلك- بتصحيح مفهوم ” العبادة “، بنقله   من النظر الجزئي  الذي يحصرها في شرائع تعبدية مخصوصة من صلاة وصيام وحج وزكاة… إلى نظر كلي شامل يستصحب عناصر الشخصية الإنسانية في كل مراحلها، ويجمع البعدين الدنيوي والأخروي؛ فهذه المفاهيم الراقية هي فرائد إسلاميَّة سامية، فالمنهج جاء بمفهوم شامل للعبادة ناظم لكل سكنات الإنسان وحركاته ، في نفسه وعقله وجسم  ومحيطه إذا ما صلحت النية.

 ثانيا: تجليات التوزان في النُظم  التربوية

إذا كان التصور التربوي الإسلامي قد أرسى مبدأ التكامل بين العقل والروح والجسد في تربية الإنسان وتعليمه، فإن هذا المبدأ لا يُعدم بحال في فلسفة بناء  النظم التربوية والتعليمية، لأنها نظم كفيلة بالإسهام بسهم وافر في بناء الشخصية المتوازنة وتحصينها من المنزلقات التربوية.

إن المنهج  التربوي وسيلة وليس غاية، أي أن الهدف الأساس من تصميم النظم التربوية إنما هو تحقيق التربية المتوازنة لطلاب العلم، «بأن” يتعلموا” و”يعدلوا” سلوكهم أو “يكتسبوا” سلوكيات جديدة وذلك من خلال تفاعلهم مع الخبرات التربوية التي يحتويها المنهج.  بحيث إن نمو الطالب يجب أن يكون شاملا، أي يشتمل النمو المعرفي الذي يتعلق بتعلم المعلومات، والنمو انفعالي المتصل بالقيم ونواحي الجمال، والنمو النفس حركي مرتبط بتعلم المهارات الحركية» ([5]).

فالإنسان كل متكامل، يتكامل فيه الجانب العقلي مع الجانب الوجداني مع الجانب السلوكي، ومراعاة التوازن بين هذه الجوانب في بناء النظم التربوية وترسيمها، يشكل قاعدة صلبة لتنشئة الأجيال الفاعلة في الأمة بوسطيّتها واعتدالها في الفكر والمنهج والتحصيل، حيث يجتمع فيها العلم النافع بالعمل الصالح، والأخلاق الفاضلة بسداد المنهج.

إن بؤرة تميز النُظم التربوية ماثلٌ في قدرتها  على تخريج كفاءات علمية متوازنة فكرا، وعقيدة وسلوكا، قادرة على الإسهام في بناء وتجديد الحضارة الإنسانية، فـ «المناهج الجيدة هي التي تصدرعن رؤية شاملة ومتكاملة لوظيفة الإنسان في الحياة مع الأخذ بعين الاعتبار ما يحتاجه بناؤه الشخصي من مبادئ ومفاهيم ومهارات، والانتباه كذلك إلى متطلبات الاندماج في الحياة العامة، والمحافظة على النسيج الاجتماعي بالإضافة إلى تكوين الانتماء إلى الدائرة الأوسع، دائرة الإنسانية»([6]).

وقد أكد المؤتمر العالمي للتعليم في العالم الإسلامي أن التربية هي رعاية نمو الإنسان في جوانبه الجسمية والعقلية والعملية واللغوية والوجدانية والاجتماعية والدينية وتوجيهها نحو الصلاح والوصول بها إلى الكمال، وأوصى المؤتمر بضرورة تعزيز فكرة التكامل بين المعارف والعلوم والقيم في مؤسسات التعليم العالي في العالم الإسلامي ([7]).

إن عدم التكامل في جوانب شخصية الطالب يؤدي إلى قصور في إدراكه لمتطلبات التفكير العلمي، ووعيه بكيفية التفاعل الصحيح والآمن مع ما يقابله من مشكلات في الحياة اليومية. فالمبدأ أن الخبرة التربوية تُشكّل منظومة تتفاعل فيها جوانب الشخصية الثلاث (الجانب المعرفي، الجانب النفس-حركي، الجانب الوجداني).

ف« الطالب ليس بحاجة اليوم إلى التمتع بعقلية جيدة فحسب وإنما هو بحاجة إلى نوع من الإحياء الكلي: العقلي والنفسي والروحي والشعوري مع ملاحظة التوازن والانسجام بين هذه الجوانب. » ([8]).والحديث عن ضرورة التوازن في شخصية طلاب العلم لا يلغي الفروق الفردية بينهم، بقدر ما يسعى إلى تقليص حدودها، واستثمارها في سيرورة التحصيل العلمي، لتكون النظرة التكاملية للفئة المستهدفة داعمة لمنهج  التربية والتكوين والتحصيل.

خاتمة:

 إن أهم ما يميز النظرية التربوي الإسلامية هو ذلك النظر  الشامل المتوازن  للشخصية الإنسانية، بنهج تتفاعل فيه  الأبعاد النفسية والعقلية والجسمية دون اخلال او استبعاد. ولعل أهل ما ابتليت به الأمة تاريخا وحاضرا هو الانفصام النكد لهذه الأبعاد في تربية الإنسان وتعليميه  وتفكيره وسلوكه وفاعليته، فظهرت  بذلك منزلقات تربوية أثرت على  بناء الشخصية الإسلامية وفاعليتها في عمارة الأرض.

ولعل المسلك الأسلم لوصل ما انفصل  من أصولنا التربوية الإسلام، هو الاجتهاد في احياء ما اندرس من هذه الأصول برؤية شمولية لمفهوم الإنسان تستحضر  مختلف عناصر الشخصية الانسانية  بنهج متوازن دون استبعاد ، واستصحاب هذه الأصول لتجديد  النظم  الموجهة لمحاضن التربية ومحافل التدريس. والله المستعان

ثبت المصادر والمراجع

– ابن عاشور، محمد الفاضل. المحاضرات المغربيات، تونس: الدار التونسية للنشر، 1974م، ص 170.

– البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة1، 1423ه/2002م.

– العمراوي، أحمد، والبقالي، وخالد. ديداكتيك التربية الإسلامية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة 1، 1999م.

– بدوي، رمضان مسعد. المنهج وطرق التدريس، عمان: دار الفكر ناشرون وموزعون، الطبعة 1، 2011م/1432ه.

– بكار، عبد الكريم. حول التربية والتعليم، سلسلة المسلمون بين التحدي والمواجهة، دمشق (سوريا): دار القلم، الطبعة 3، 1432هـ/2011م

– قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية، بيروت: دار الشروق، طبعة 1417هـ/1997م، ج1، ص18.

— توصيات المؤتمر العالمي للتعليم العالي في العالم الإسلامي: تحديات وآفاق  المنعقد  في :ربيع الأول لعام 1429هـ، بماليزيا، منشورة بموقع جامعة ام القرى السعودية، على الرابط :http://uqu.edu.sa/page/ar/144046

[1] – التوازن بين هذه الالتزامات والحقوق  له شواهد  كثيرة من القرآن الكريم  والسنة  النبوية، منها ما رواه البخاري: عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذِّلة ( وهذا قبل نزول آية الحجاب ) فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال كل قال فإني صائم قال ما أنا بآكل حتى تأكل قال فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال نم فنام ثم ذهب يقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن فصل ، فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” صدق سلمان ” .    البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري، رقم الحديث 1867  .

[2]– ابن عاشور، محمد الفاضل. المحاضرات المغربيات، تونس: الدار التونسية للنشر، 1974م، ص 170.

[3]– العمراوي، أحمد، والبقالي، وخالد. ديداكتيك التربية الإسلامية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة 1، 1999م ، ص 133.

[4]– قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية، بيروت: دار الشروق، طبعة 1417هـ/1997م، ج1، ص18.

[5]– بدوي، رمضان مسعد. المنهج وطرق التدريس، عمان: دار الفكر ناشرون وموزعون، الطبعة 1، 2011م/1432ه.، ص29.

[6]– بكار، عبد الكريم. حول التربية والتعليم، سلسلة المسلمون بين التحدي والمواجهة، دمشق (سوريا): دار القلم، الطبعة 3، 1432هـ/2011م،ص 346.

[7]–  ينظر:توصيات المؤتمر العالمي للتعليم العالي في العالم الإسلامي: تحديات وآفاق  المنعقد  في :ربيع الأول لعام 1429هـ، بماليزيا، منشورة بموقع جامعة ام القرى السعودية، على الرابط :http://uqu.edu.sa/page/ar/144046

[8]– بكار، عبد الكريم. حول التربية والتعليم، مرجع سابق، ص356.

Leave A Reply

Your email address will not be published.