تعاني أمة الإسلام اليوم ومعها العالم من أزمة أخلاقية حادة، بسبب ضعف القيم لدى الأفراد والجماعات، وعدم تمثلها واقعا والتصريح بها فكرا وقولا، وهو عين المقت الذي حذر منه الشرع الحنيف، والسبب وراء التردي التي تعاني منه الأمم والشعوب، ولا سبيل إلى رفعه والتشوف إلى معالي الرتب والسير في ركاب النهضة والرقي إلا بترسيخ القيم الفاضلة وتنزيلها وتطبيقها التطبيق الأمثل لأن ذاك سبيل تكوين الأجيال الصالحة وصناعة الشخصية الفاعلة الإيجابية المؤثرة.

وتعد السنة المشرفة مورد الضمآن في المجال، وهي لا تقدم أنموذجا حالما مضى في غابر الأزمان، بل ترسم منهجا متكامل الأركان، مرصوص الخطوات، مقتصد الأقوال والأفعال لتمثل القيم الأخلاقية وغيرها من القيم.

ويبن سبر الميراث النبوي في المجال أنه تصور رسالي شامل، ومنهج متكامل يوازن بين المنهج الفكري الذي يصور قيمة الخلق وقيمته، والمنهج العملي التنزيلي الذي تُصدِّق فيه الأفعال الأقوال وفي أحلك الظروف حتى قال الصادقون العارفون: “الصدق قول الحق في موضع الهلكة”، ثم المنهج التنظيمي الذي تُوفَّر من خلاله الأجواء وتزاح الأشواك لقول الصدق وتخريخ أفواج الصادقين. وذلك لإدراك السنة المشرفة أنها الجوانب التي تشبع حاجات النفس الإنسانية التواقة إلى الاطمئنان العقلي والبرهان العملي والاحتضان العاطفي.

وإذا كان الله عز وجل زكى حبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم وشهد له بتمثل الأخلاق الفاضلة فقال:  “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ”[1] فإنه عليه السلام سلك بمن صلحت نيته وسمت همته الطريق الأيسر والسبيل الأوضح للتحقق بمعالي الأمور، والدليل جميل صنعه وسداد رأيه في بناء صرح صدق أصحابه رضي الله عنهم وأخلاقهم حتى صار بعضهم نسخة طبق الأصل منه عليه السلام مع ما نحفظه له وحفظه له هم أيضا من عصمة وتبجيل ومقام للنبوة لا يرام.

وغني عن الذكر ما جاد به الهدي النبوي المعصوم في كل جانب من أساليب متنوعة، وآليات متعددة، ومقاربات دقيقة، وفهومات عميقة، يعد إبرازها في الواقع المعاصر مكسبا نوعيا، وطفرة غير مسبوقة في سبيل تعزيز الأخلاق التي يعد الصدق ركنها المتين، وأساسها القويم.

وتمخض في السبيل المنشود أن الأمر يحتاج إلى رؤية شمولية تقوم على تقصي:

  •  المنهج النبوي الفكري لاكتساب قيمة الصدق.
  •  المنهج النبوي العملي التنزيلي لاكتساب قيمة الصدق.
  •  المنهج النبوي التنطيمي لاكتساب قيمة الصدق.

وتم استخلاص السبل الثلاثة المذكور لاستجلاب قيمة الصدق، بعد التتلمذ بين يدي الهدي النبوي والقراءة والتحليل والتمحيص وسؤال أهل الذكر، وكل ذلك فضل من الرحمان، وما كان فيه من صواب فمنه سبحانه، أما ما خالجه من نقص وقصور فمن نفسي الأمارة بالسوء.

وإذا كان صدق الطلب أساس طلب الصدق وغيره من القيم الأخلاقية، فإن التضرع والدعاء إلى الوهاب المنان أساس سبيل تعزيز ما نصبو إليه، وبه صال وجال سيد الخلق واستمد وأمد، وخرج من موطن الهلكة مكة ملبيا أمر ربه بالخروج إلى المدينة قائلا: “وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا”[2].

وتظل القيم الأخلاقية فيضا رحمانيا وتفضلا إلهيا يجب التعرض إليه بالتضرع والطلب والتذلل والخضوع، وما زال الله عز وجل كريما وهابا وسيظل، وحاشاه أن يخيب من رجاه ووقف ببابه، وما كان ليسوء حبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته كما وعده، وهذا هو سر استمرار هذه الأمة وعزتها وقيامها من أكبائها رغم ما عرفه تاريخها من مراحل ضعف وعجز، تلتها صحوات تبين من خلالها أن الخيرية لن تفارق أمة نبي آخر الزمان، وستظل أمة قائمة برجالتها، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله.

أما اليأس الذي خالج كثيرا من النفوس الحية جراء ما فشا في الواقع المعاصر من نكوص عن القيم عامة والقيم الأخلاقية خاصة، فحري بنا طرده لأنه مؤذن بخراب الديار وضمور الأفكار.

وعلى أساس الثقة في موعود الله عز وجل، والثقة في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفاؤل الإيجابي  بالمستقبل نقترح ونستنتج في سبيل تعزيز القيم الأخلاقية وتفعيلها في الواقع المعاصر انطلاقا من الهدي النبوي، ما يلي:

  1. يجب على الأمة ونخبها أن تضع هم تعزيز القيم عامة والأخلاقية خاصة موضعه الصحيح، فتهتبل بالأمر وتهتم به الاهتمام اللائق، قولا وفعلا وتشريعا تنزيليا عمليا،  وهذه هي البداية الصحيحة لاكتساب تلك القيم ونشرها وتعزيزها، وإذا كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن مما أضر بقيم هذه الأمة وضعها على الهامش ناهيك عن فشو مجموعة من التصورات التي تنقص من شأنها وشأن من تزيا به، ونعته بالضعف والعجز والزهد السلبي، لذا وجب تصحيح هذا المسار وإعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية ودورها في حياة الإنسان.
  2. لابد أن يرشَّح ويرشِّح الصادقون أنفسهم لهذه المهمة الجليلة[3]، ـ والكمال لله ـ ترص خطوات عملهم رؤية شمولية تنهل من النبع القرآني والهدي النبوي، وتقوم اقتراحا ونظرا على الجوانب الثلاثة الأنفة المطبقة في خلصة الصدق، فتلتفت إلى القيم الأخلاقية فكرا وتنزيلا عمليا وإجراءات تنظيمة تنزيلية.
  3. يعتبر الهدي النبوي منبعا زاخرا في مجال القيم الأخلاقية، وتتجلى فرادته في ما يقدمه من زاد فكري تعززه البراهين العملية التطبيقية وفق رؤية شمولية خبيرة بملابسات الزمان والمكان والإنسان، ما يفرض سبر ذاك الإرث الفياض وتدريسه وتدارسه، لأن المنطلق الصحيح منه وبه، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، كما قال الخبير مالك الإمام رحمه الله.
  4. إن سبيل تعزيز القيم الأخلاقية كما دلت على ذلك السنة المشرفة التربية ثم التربية ثم التربية، والتربية أولا والتربية وسطا والتربية آخرا، لما عرف من أن التربية بناء للإنسان وفعل ملازم له طوال سيرورة حياته، وقد خان كثير من المناهج التعليمية الصواب حين زوت التربية في ركن التدريس، ليفوتها طلبها في مجالات أخرى تكمل العلم والتعلم الضروري، فلم تأبه بتوفير ـ أو تطلب توفير ـ الأجواء لتنزيل ما تعلم، ولم تنتبه إلى أن ما تقتضيه التربية من سيرورة وحلقات مرتبطة يكمل بعضها بعضا لتنسق مع غيرها ممن تصدوا لنفس المهام، وهذا هو الفصام النكد الذي يعيشه طالب القيم إذ يحس ببثر شديد تعاني منه، ما يؤدي إلى نكوص العقب مرات ومرات والعياد بالله.
  5. للمنظومة الأخلاقية الإسلامية الشمولية مميزات حري بنا تقصيها وتداولها والاستفادة منها.
  6. لا بد من تنويع الأساليب في طلب القيم الأخلاقية وتوطينها في النفوس وتعزيزها في الواقع، ومن أقدار الله عز وجل في الواقع المعاصر أن تطور العلم المادي والمعنوي تطورا لافتا للأنظار، مما يوجب مسايرته والاستفادة منه واستثماره الاستثمار الحسن لتبليغ المعاني السامية التي تحملها تلك القيم، وتقديمها للأخر في أبهى حلة وأجمل صورة، ولهذا لابد من الالتفات للأمر من قبل العلماء والمهتمين والدارسين.ولابد من التمكن من الفنون العلمية التنظيمية الإبداعية، وهي جناح يكمن جناح التربية الروحية الأخلاقية، حتى يقوى طائر القيم الروحية للأمة على الإقلاع والتحليق، لأن القوة (الكفاءة) والأمانة (التربية القيمية)، أساس الاستخلاف في الأرض[4].
  7. لا بد من الوقوف عند ناموس الابتلاء في رحلة العمر طلبا للقيم الأخلاقية وتوطين النفس على اقتحام العقبة، لأن السهول الوطئة مرتع لغيرنا، والواقع محك صدق الادعاء.
  8. ومن سنة الله عز وجل الماضية في خلقه إلى يوم الدين أن يبتليهم بالخير والشر امتحانا لصدقهم، وبرهانا على مطابقة أفعالهم لأقوالهم، ويناط بالأمة وصلحائها وعلمائها تبليغ هذا الفهم السليم إلى من سيجري عليه هذا السنن، ليعلم أن الابتلاء يتلوه الاجتباء، ولتحتضن المبتلى قلوب من يحيطون به ولا يتركونه فريسة لنفسه والشيطان.
  9. لا بد من الصدق في طلب القيم الأخلاقية، بالفهم الشمولي الذي قدمته السنة المشرفة وتبناه أكابر هذه الأمة، وإذا كان طالب الصدق في حاجة إلى الصدق وهو عمود وأساس كل القيم الأخرى، فما بالك بما دونه من القيم، يقول ابن القيم رحمه الله: “منزلة الصدق وهي منزلة القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين”[5]. فهل نبحث عن  الصدق وتقاس عليه باقي القيم الأخلاقية بهذا الفهم، أم نبحث عن صدق وقيم الدعة والاسترخاء؟
  10. لابد من الصحبة والاحتضان سبيلا لتعزيز وتمثل القيم الأخلاقية والإيمانية، لأنها حال لرسول الأنام ورثه عنه صحابته الكرام ومن رباهم على منهجه ويورثه ويرثه جيل عن جيل في شفرات قلبية تلفها الصحبة الصادقة القاصدة.

والاحتضان هو تواصل القلب مع القلب، وفق ترددات بسيطة، لا يعوقها الإفحام الفكري، أو السلم الإداري، ويد العطف والإحسان لا تأشيرة عليها، تحظى بالقبول، وتفسح لها الحدود، لأنها مفتاح القلوب، ومغلاق الشجون، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف[6]، كما قال عليه الصلاة والسلام.

 

[1] – سورة القلم، الآية 4.

[2] – سورة الإسراء، الآية 80.

[3]  – طالما تمنى الصالحون الصادقون إمامة هذه الأمة في دروب الخير والصلاح، قال تعالى ناقلا تمنى الأمر عند عباد الرحمان: “واجعلنا للمتقين إماما”. سورة الفرقان، الآية 74.

[4] – قال الله تعالى حاكيا مقالة ابنة سيدنا شعيب: ” قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ“. سورة القصص، الآية 26.

[5] – ابن القيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، ص 257/2، ط 3، 1416 هـ – 1996م، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت.

[6] – أخرجه الإمام البخاري، في كتاب أحاديث الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة وأخرجه الإمام مسلم، في كتاب البر والصلة.