إن وصول الباحث إلى المعلومة الموثوقة وفق منهجية علمية في أي اشتغالٍ بحثي، بات أمرا أكاديميا مفروضا، حتـى يـحقق البحث المراد منه في الكشف عـن الحقائق العلمية، وتـحصيل الـمعارف والكفايـات المنهجيـة.
بل إن أكبر تجليات ممارسة البحث العلمي المنهجي على صاحبه، أن يجعله منهجيا في تفكيره، مبدعا في كتاباته، ناقدا ومحللا بمنهج علمي منظم.
ولذلك لم يعد البحث العلمي ممارسة اعتباطية تخضع في منهجيتها لذاتية الباحث واجتهاداته، وإنما هو عملية تسير وفق خطوات علمية مضبوطة، معتمدة أكاديميا في المؤسسات الجامعية على اختلاف تخصصاتها.
وفي إطار ذلك تناولت أقلام العديد من الأساتذة الباحثين في مقالات وكتب، المراحل المنهجية لكتابة بحث أو دراسة علمية، من أوّل إلى آخر خطوة.
وانطلاقا من التجربة الشخصية في المسار الأكاديمي في الجامعة (إجازة، ماجستير، دكتوراه)، واحتكاكا بالعديد من الطلبة الباحثين من جميع المستويات الدراسية بها، انتبهنا إلى كون طرح إشكالية بحث علمية مقبولة، خطوة تحير وتستعصي على كثير منهم، وانطلاقا من ذلك أيضا ارتأينا كتابة هذه الورقة المختصرة الواضحة في الموضوع. فما المقصود بإشكالية البحث؟ وما معايير بنائها ؟
تعد نهاية البحث وخاتمته وما توصل إليه الباحث من نتائج علمية، المعيار الذي يُعتمد في قياس مدى نجاح الأبحاث العلمية، وتوفيقها في ذلك حقيقة ليس إلا نتيجة لانطلاقة صحيحة متمثلة في صياغة إشكالية حقيقية وواضحة.
فإشكالية البحث هي الخطوة الأساسية والرئيسة التي تبنى عليها باقي عناصر البحث.
ولعلّ الدارسين -وأقصد أساتذة الجامعة بالدرجة الأولى- متفقون على أهمية الإشكالية في الاشتغال البحثي، وأنها الأساس الذي يوضع عليه البحث، غير أنهم لا يتفقون جميعا على تعريف مطلقٍ لها، وقد نحوا في ذلك إلى تعريفات كثيرة يصعب تتبعها، بل إن استحضارها في هذه المقالة قد يشوش على ذهن القارئ في استيعاب مفهوم الإشكالية، لذلك آثرنا أن نقتصر على المختصر المفيد الوافي بالغرض، فنقول؛
الإشكالية: بالعودة إلى قواميس اللغة هي؛ الأمر الملتبس المشتبه، وفي المعجم الفلسفي؛ إشكالية البحث هي ” المقاربة أو التصور النظري الذي نقرر تبنيه من أجل معالجة المشكل المطروح من خلال سؤال الانطلاق“[1]، فهي تصور نظري كونها تعبر عن إحساس بمشكلة ظاهرة في مجال معين، تترجم إلى جملة استفهامية أو عبارة تقريرية، يتسمان بالوضوح والحقيقة. وتتبع بتساؤلات فرعية تكون أكثر تحديدا وتدقيقا، بحيث تصبح هذه التساؤلات هي الركائز التي يبنى عليها البحث وتنطلق منها المعالجة.
تمثل خطوة تحديد إشكالية البحث مرحلة مهمة جدا ومركزية، بحيث أن إخفاق الباحث في تحديد إشكالية علمية دقيقة واضحة لبحثه، سبب في عدم توصله إلى النتائج المرجوة والمقبولة. فهي عملية ليست اعتباطية تأتي تبعا لهوى الباحث وخاطره، وإنما تخضع لمعايير وضوابط معينة، وعليه؛
– لا يمكن صياغة الإشكالية اقتصارا على عنوان البحث وتحديد الظاهرة المراد دراستها، بل لابد من بذل الجهد في التنقيب عن مختلف ما كتب في الموضوع (كتب، مقالات، أبحاث؛..)، ورصد الآراء المتعددة فيه، فذلك مسعف في الإلمام بالأسباب التي أدت إلى المشكلة المراد معالجتها، وبالتالي صياغتها صياغة شاملة ودقيقة، كما يجنبه هذا الفحص تكرار الإجابة عن أسئلة أجيب عنها من قبل.
– الخطوة السابقة هي سبيل أيضا إلى تدقيق الأسئلة المتفرعة عن الإشكالية الرئيسية، بحيث وجب أن تكون قاصدة متصلة بموضوع البحث، توظّف فيها المفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة بالبحث، حتى لا يتداخل مع مواضيع أخرى قريبة، أو يجعل الكاتب يضيع جهده في تعريف ودراسة مفاهيم بحثُه في غنى عنها.
– يفضل أن تستهل الإشكالية بتمهيد يكون بمثابة البوصلة التي توجه نظر القارئ إلى موطن إشكالية البحث، حتى لا يتشتت انتباهه ويعرف ما سيقتصر عليه في قراءة البحث، ولا يكون هذا التمهيد طويلا مملا ولا مختصرا مخلا.
– ثم بعد التمهيد يبسط الباحث سؤال الانطلاق -سؤال الإشكالية- العام والمحوري المحدد للاتجاه الذي سيسلكه البحث، ولا بدّ أن يكون سؤالا واضحا لا غامضا ولا ملتبسا، مركزا قاصدا لا مسهبا فضفاضا، كما لا ينبغي أن يكون سؤالا وصفيا تقتصر إجابته على أرقام ومعلومات بسيطة، أو يُقتصر في الإجابة عليه بنعم أو لا، ولا ينبغي أن يكون فلسفيا يبحث في غير الممكن معرفته.
– وفي صياغة السؤال الإشكالي العام فالباحث مخير في ذلك بين جعله جملة استفهامية، أو سؤالا مفتوحا، أو صياغته بعبارة تقريرية.
– يتبع السؤال الإشكالي العام بأسئلة متفرعة عنه، والتي كما سبق وقلنا هي القاعدة التي يبنى عليها البحث، ويفضل أن تكون متساوقة وفصول البحث أو مباحثه.
– ثم بعد كل هذا يصرح الباحث بالأهداف المرتقبِ تحقيقها من خلال الإجابة عن إشكالية البحث، وكذا المقاربة المنهجية المعتمدة (منهج البحث).
- مثال 1:
عنوان البحث: دور التخطيط الحضري في الحد من الجريمة في المدن الجديدة[2].
إشكالية البحث:
إن عملية بناء التجمعات العمرانية الجديدة ليست مجرد عملية تخطيط وتصميم، ثم تنفيذا لعدد من المشروعات الخاصة بالإسكان والمرفق والخدمات على مراحل زمنية محددة مسبقا كما ترى ذلك النظرية التقليدية في فكر تخطيط التجمعات العمرانية الجديدة، ولذلك بات من الضروري إعطاء أهمية كبيرة لعملية التخطيط الحضاري للحد من زيادة نسبة الإجرام… وإنما من الممكن خفض فرص الجريمة ورفع إحساس الناس الأمن، من خلال تطبيق المعالجات المعمارية في تصميم الأحياء السكنية في المدن الجديدة، لذلك فإن الإشكالية التي تسعى هذه الدراسة لاستجلائها تتمثل في محاولة الإجابة عن التساؤل التالي: إلى أي مدى يمكن للتخطيط الحضري الحد من الجريمة في المدن الجديدة؟
الأسئلة الفرعية:
- ما المقصود بالتخطيط الحضري؟ وما هو مفهوم الجريم؟ وما معنى المدينة الجديدة؟
- ماهي استراتيجية التطوير في المدن الجديدة؟
- ما واقع الجريمة في المدن الجديدة في الجزائر (مثلا)؟
- كيف يمكن للتخطيط الحضري الحد من الجريمة في المدن الجديدة؟
مثال 2:
عنوان البحث: مقاربة نقدية لجدلية العلاقة بين علم الكلام وأصول الفقه “صفة كلام الله تعالى نموذجا”[3].
إشكالية البحث:
يثير هذا البحث جدلية العلاقة بين علمي الكلام والأصول، ويناقش أثر الخلاف الكلامي في المباحث الأصولية انطلاقا من دراسة الخلاف بين المتكلمين في صفة كلام الله تعالى، وتتبع أثر هذا الخلاف في المباحث الأصولية.
الأسئلة الفرعية:
- ما هي عوامل التداخل بين علم الكلام وأصول الفقه؟
- كيف تنظر الفرق الكلامية لكلام الله تعالى؟
- ما أثر الخلاف في كلام الله تعالى في المباحث الأصولية؟
وختاما:
تبقى هذه ورقة إرشادية نظرية تحاول أن تبسِّط للباحث مسألة بناء إشكالية البحث، تجنبا لرزمة من الأخطاء المنهجية التي يقع فيها أغلب طلبة الجامعة في إنجاز بحوث تخرجهم، وكذلك من باب الإرشاد وحتى يتمكن الباحث من الكفايات المنهجية في إعداد بحث أكاديمي مقبول لا بد من الاطلاع وتفحص البحوث الأكاديمية المميزة، وحضور مناقشاتها والاستفادة من توجيهات الأساتذة حولها. والحمد لله ورب العالمين.
[1] عبد الكريم غريب، منهج البحث العلمي في علوم التربية والعلوم الإنسانية، منشورات عالم التربية 2012، ص141.
[2] مقال نشر بالمجلة الجزائرية للأبحاث والدراسات، العدد الرابع، أكتوبر 2021م.
[3] مقال منشور في موقع أكاديمية الدراسات الفكرية والتربوية، على الرابط: https://iesacademy.org/