تعظيم الله تعالى وأثره في تعزيز معالم الأمن الأسري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد، فالأسرة هي محضن الأخلاق والتربية، وهي منبت الإحساس بالأمن وهي أصل لمفاهيم العمران البشري. لذلك اعتنى الإسلام بها وبأمنها عناية خاصة، واعتبر الأمن مقصدا عظيما يتوخاه من خلال أحكامه وتشريعاته.
ولما كانت الأسر العربية والإسلامية تعيش إشكالات متعددة- من حيث تزايد نسب الطلاق والعنف والإجهاض- بسبب فقدان الأمن بشتى أنواعه: النفسي والفكري والروحي والاجتماعي والاقتصادي،حيث كشفت دراسة ميدانية أنجزتها وزارة الصحة المغربية بتعاون مع المنظمة العالمية سنة2008 عن أن 48.9 في المئة من أفراد المجتمع مصابون بإحدى الأمراض النفسية [1]وأن الأسر تعيش في قلق دائم ،حيث الأطفال قلقون والمراهقون قلقون والكبار قلقون، لأسباب تتعلق بالماضي وخبراته السلبية،ولأسباب تتعلق بالحاضر وضغوطه ومشكلاته،ولأسباب تتعلق بالمستقبل وتغيراته والمجهول الذي يكتنفه[2].
وبالرغم من مجهودات الدولة لتأهيل الأسر فكريا وروحيا واقتصاديا فقد أضحى عجزها باديا أمام تفاقم الإشكالات التي تنخر أمن الأسر ومن ثم أمن المجتمع،وعليه فقد أصبح لزاما الكشف عن دور الجانب الروحي في تنشئة الأسرة بحيث يكون الحصن الحصين لها من الوقوع في المشاكل النفسية و المادية ، ولعل اهم مدخل من مداخل تحصين الأسرة وتحقيق الأمن لها مدخل تعظيم الله تعالى ومحبته، ذلك بأن استحضار عظمة الله أثناء بناء الأسرة وتدبير مؤسساتها له أثر كبير في تحقيق الأمن الأسري لتكون إشكالية البحث على النحو الآتي :
ما دور تعظيم الله تعالى في تعزيز معالم الأمن الأسري ؟
إشكالية يتفرع عنها مجموعة من الأسئلة نذكر من بينها :
- ما مظاهر تعظيم الله تعالى ؟
- ما مرتكزات تحصيل الأمن الأسري؟
- ما المداخل التي يجب أن يشتغل عليها لتحقيق أمن الأسرة؟
– ما المداخل التي يكرسها تعظيم الله تعالى لتحصيل الأمن الأسري؟
أهمية البحث
إن الإجابة عن هذه الأسئلة الإشكالية يهدف إلى تحقيق الأهداف الآتية :
-معرفة أسس ومركزات تحصيل الأمن الأسري وتعظيم الله تعالى
-بيان أهمية الأمن الروحي والعقدي في تحصيل الأمن الأسري
-الكشف عن أهمية تعظيم الله تعالى في بناء الأسرة وتدبير مؤسساتها
خطة البحث
لمعالجة هذا البحث قسمته إلى ثلاثة مباحث :
المبحث الأول:دراسة مفاهيمية
المبحث الثاني:مقدمات تأسيسية للنظر في الأمن الأسري.
المبحث الثالث: تعظيم الله تعالى وأثره في تحقيق الأمن الأسري.
المبحث الأول :دراسة مفاهيمية
1-تعظيم الله تعالى :
عظم : من صفات الله عز وجل العلي العظيم ، ويسبح العبد ربه فيقول : سبحان ربي العظيم ;
و العظيم : الذي جاوز قدره وجل عن حدود العقول حتى لا تتصور الإحاطة بكنهه وحقيقته .
والعظم في صفات الأجسام : كبر الطول والعرض والعمق والله تعالى جل عن ذلك ;، وأعظم الأمر فهو معظم : صار عظيما . و التعظيم: التبجيل: يقال لفلان عظمة عند الناس: أي حرمة يعظم لها[3]
أما في الاصطلاح :حال في القلب يظهر أثره على الجوارح[4] يجعل المؤمن يبجل ربه سبحانه ويطيعه في كل جاء به رسوله و ودل عليه كتابه المسطور والمنظور .
2-الأمن الأسري :
الأمن:أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف[5]والأمن ضد الخوف[6]ويقال فلان آمن وفلان خائف
وعند الخليل الأمن ضد الخوف، والفعل منه أمن يأمن أمنا. والمأمن: موضع الأمن والأمنة من الأمن،اسم موضوع من أمنت والأمان إعطاء الأمنة[7].
ويشتق الأمن من معان كثيرة أهمها الأمانة والإيمان وهي معان متقاربة وتدور معاني كلمة الأمن في اللغة على الطمأنينة وعدم الخوف والسلامة والثقة [8].
والأمن قسمان أمن من حيث الشكل ويشمل الأمن الشخصي والأمن المجتمعي وأمن القطر وأمن الأمة وأمن من حيث الموضوع ويشمل الأمن النفسي والروحي والأمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري والديني والمعلوماتي والسياحي والبيئي ….[9].
وعليه فالأمن أنواع: أمن نفسي وأمن فكري وأمن سياسي وأمن اقتصادي وأمن غدائي وأمن صحي وأمن ديني وأمن اجتماعي وغيره كثير
الأسرة:الدرع الحصينة التي يحتمي بها الإنسان عند الحاجة [10]وتطلق في القران الكريم على الآل والأهل والعشيرة والرهط . وعليه فالأمن الأسري هو الطمأنينة التي ينعم بها جميع أفراد الأسرة،طمأنينة تنفي عنهم الخوف والفزع،فيشعرون بالأمن النفسي والروحي والأمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري والديني، من هنا نقول إن الأمن الأسري هو حالة نفسية يشعر به الإنسان تظهر من خلال أمور مادية تقوم على حفظ دينه ونسله وعقله وماله وبتعبير آخر: هو حالة نفسية يشعر بها الإنسان تظهر محددادتها من خلال أمور مادية تعمل على حفظ الكليات الخمس.
لذلك فالسؤال الذي نود الإجابة عنه هو :ما أثر تعظيم الله تعالى في تحقيق أمن الأسرة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال نقف عند أسس ومرتكزات تعظيم الله تعالى والأمن الأسري
المبحث الثاني :مقدمات تأسيسية للنظر في تعظيم الله تعالى والأمن الأسري
إن النظر في كل من تعظيم الله تعالى والأمن الأسري يستلزم الوقوف عند الأسس التي يقوم عليها كل منهما،ذلك بأن معرفة أسس ومرتكزات تعظيم الله تعالى تجعل الإنسان في صلة مع ربه ، كما أن الكشف عن منطلقات الأمن الأسري وسبل تحقيقه تجعل من تعظيم الله تعالى عملا قاصدا يوجه إلى تحقيق أمن الأسرة. وعليه سنحاول أن نكشف عن أسس ومرتكزات كل من تعظيم الله تعالى والأمن الأسري.
المطلب الأول :مقدمات تأسيسية للنظر في تعظيم الله تعالى
يعتبر تعظيم الله تعالى اس العقيدة الاسلامية ومقوما من مقومات الاستجابة لله تعالى ،لذلك فالحديث عن تعظيم الله تعالى يستلزم النظر إلى كل الجهات التي تفضي إلى تعظيمه سبحانه وهي أن أتجهات أربع يشد بعضها بعضا فينبني من المجموع مفهوم التعظيم ،و يمكن تفصيلها على النحو التالي:
- تعظيم الله تعالى من جهة معرفته سبحانه،
- تعظيم الله تعالى من جهة النص الشرعي
- تعظيم الله تعالى من جهة الدلائل الدالة على التعظيم من غير النص
- تعظيم الله تعالى من جهة فعل المكلف
1- :تعظيم الله تعالى من جهة معرفته سبحانه
إن العلم بأسماء الله عزوجل ومعرفة معانيها ودلالتها والتفقه فيها والتعبد إلى الله بها، أصل للعلم بكل المعلومات،فكل ما سوى الله إما أن يكون خلقه،وإما يكون أمره ،فمن نظر في الكون الذي هو خلق الله تعالى وعرف شؤونه تبين له أنه متعلق بأسماء اله تعالى وصفاته العليا
يقول ابن القيّم :(فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الربّ (تعالى) في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمّاً وإجلالاً، وقد ذم الله (تعالى) من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال (تعالى): “مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً” [11]، قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته، وروح العبادة هو الإجلال والمحبة،
فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت..[12] .
لذلك تشكل معرفة الله تعالى نقطة البداية في توجيه السلوك البشري أي بداية المقتضى التشريعي العملي لعقيدة الايمان، فمعرفة الله تعالى من خلال صفاته وفضائله تملي علينا السلوك اللائق مع صاحب هذه الصفات وهي أصل لكل خير ،ومصدر لكل بر ،ومصرف لكل شر ،مع شرفها بنفسها ومتعلقها وثمرها وأجرها ،وأفضل الأحوال ما نشأ عن أشرف المعارف ،وأشرف المعارف ما تعلق بالله وحده لا يشاركه غيره[13]
من هنا نقول إن معرفة الله تعالى أصل لتعظيمه سبحانه ذلك بأن المسلم يعلم ان الله حليم كريم وأنه عزوجل غفور رحيم وأنه شديد العقاب بطشه شديد وكيده متين ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون وحينما يعلم أن الله سميع بصير لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء حين يعلم هذه الأسماء وتلك الصفات ،فإنه يزداد تعظيما له سبحانه وتعالى ويزداد خضوعا له فيسعد بقربه في الدنيا والآخرة[14]
2- :تعظيم الله تعالى من جهة النص الشرعي
من تعظيم الله تعالى: تعظيم كلامه، وتحقيق النصيحة لكتابه تلاوة وتدبراً وعملاً، بل إن من تعظيم الله تعالى الاستعانة بسنة نبيه في فهم كتابه، وعليه فقد يشترط لتعظيم النص مجموعة من الشروط نذكر منها ما يلي :
أ- أن الأحكام الشرعية تستمد من نص الشارع
الحكم الشرعي سواء أكان منصوصا عليه أم مستنبطا عن طريق الاجتهاد يستمد من نص الشارع ،فلا عبرة بحكم عقلي محض.
يقول بن تيمية :الأحكام الخمسة الايجاب والاستحباب والتحليل والكراهية والتحريم لا يؤحذ إلا عن رسول الله فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله [15]
وقال أيضا: “الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله والدين ما شرعه فليس لأحد من المشايخ والملوك والعلماء والأمراء والمعلمين وسائر الخلق خروج عن ذلك بل على جميع الخلق أن يدينوا بدين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ،ويدخلوا به كلهم في في دين خاتم الرسل وسيد ولد ادم وامام المتقين خير الخلق واكرمهم على الله محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما وكل من أمر بأمر كائنا من كان عرض على الكتاب والسنة ،فإن وافق ذك قبل وإلا رد”[16]
ب- ما تبث بنص لا يترك إلا بنص
فكل ما تبث بنص لايجوز تركه إلا بنص يدل على نسخه أو على صرفه عن ظاهره
يقول بن تيمية :كل من عارض نصا بإجماع وادعى نسخه من غير نص يعارض ذلك النص فإنه مخطئ في ذلك.[17]
ج- تقديم النص على ما عداه من الأدلة عند الاستدلال
وهذا منهج يجب اتباعه عند الاستدلال حيث يقدم الكتاب على غيره من الأدلة
قال الشافعي:ومن تنازع ممن بعد رسول الله رد الأمر إلى قضاء الله ُثم قضاء رسوله فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء، نصا فيهما ولا في واحد منهما ردوه قياسا على أحدهما[18]
لنخلص في الأخير أن تعظيم النص إنما يكون بالالتزام بأحكامه وعدم تجاوزها والعمل بها .
3– تعظيم الله تعالى من جهة الدلائل الدالة على التعظيم من غير النص
إن تأمل خلق السموات والأرض، وما تحويهما من نواميس كونية، ومظاهر خلقية تجعل الانسان يصل بمجموع الدلائل الدالة على وجود الله إلى تعظيمه.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: “كثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار، ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته ولكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره”[19]
إن مجال التفكر والنظر في كتاب الله المنظور يتعدد باختلاف ما خلق الله سبحانه ، فقد يكون التفكر والنظر العقلي في السنن الاجتماعية والتي تبين ضعف الإنسان وضرورة انقياده لله تعالى مهما بلغ من القوة والجبروت
قال تعالى:
“قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذبِينَ”[20]
وقد يكون في آيات الله الكونية التي تدل على عجائب صنعه ، وغرائب خلقه، في عالم الحيوان والنباتات والجمادات والطيور والحشرات لقوله تعالى:”أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون” [21]
وقد يكون في آيات الأنفس والتي لا تزيد الإنسان إلا تعلقا بالله وافتقارا له لقوله تعالى:”وفي أنفسكم أفلا تبصرون” [22]
إن النظر في الكون وعجيب صنع الله فيه وفي السنن الاجتماعية المؤطرة للعلاقات الانسانية وفي ايات الأنفس تجعل الانسان يذهل لقدرة الله تعالى وقوته،بل لفضله ورحمته ، فلا يزداد إلا محبة وتعلقا بل لا يزداد إلا خشية ووقارا له سبحانه.
4- تعظيم الله تعالى من جهة فعل المكلف
يظهر أثر التعظيم في فعل المكلف من خلال توحيده سبحانه ومحبته والافتقار إليه وشكر نعمه وغيرذلك من الأحوال التي تظهر تعلق العبد بربه وتبجيله،ونظرا لكثره الأحوال التي تظهر على العبد سنتكتفي بذكر بعضها.
أ- توحيد الله تعالى أصل لتعظيمه سبحانه
التوحيد أصل دعوة الرسل، ومَقصد رسالتهم، قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[23] ، وقال عز من قائل :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[24] . إن تعظيم الله تعالى متضمن في كل أنواع التوحيد حيث يظهر في توحيد الربوبية :والذي يفيد افراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير وفي توحيد الألوهية والذي يتمثل في افراده سبحانه بأفعال العبادة لتصرف له سبحانه دون ما سواه وان تكون موافقة لما امر به سبحانه وفي توحيد الصفات والذي يظهر في الاعتقاد الجازم بكل ما ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه من أسماء الله تعالى وصفاته العلا .وأنه منزه عن غيره
ولذلك نقول :إن توحيد المكلف لله أصل لتعظيمه سبحانه إذ الشرك به سبحانه دليل على عدم تبجيله وتوقيره سبحانه لقوله تعالى( وما قدروا الله حق قدره)[25]
ب- شكر الله تعالى أثر لتعظيم الله تعالى
يظهر أثر التعظيم في فعل المكلف من خلال شكره تعالى على نعمه و فضله
يقول ابن القيم :الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافا وعلى قلبه شهودا ومحبة وعلى جوارحه انقيادا وطاعة [26]
وشكر الله تعالى يكون بالقلب واللسان والجوارح يقول بن القيم :الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح ،أما بالقلب فهو يقصد الخير ويضمره للخلق كافة وأما باللسان فهو إظهار الشكر بالتحميد وإظهار الرضا عن الله تعالى وأما الجوارح فهو استعمال نعم الله في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته [27]
ج- محبة الله ثمرة تعظيمه
من ثمرات معرفة أسماء الله وصفاته :امتلاء القلب محبة لله ورضا بقضائه وتسليما بحكمه
قال السفارييني :من ذاق طعم المعرفة وجد فيه طعم المحبة ،فوقع الرضا عنده ضرورة [28]
د- الافتقار الى الله عنوان تعظيمه
عرف الامام ابن القيم حقيقة الفقر فقال :الفقر الحقيقي دوام الافتقار إلى الله في كل حال وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله من كل وجه [29]
فالافتقار إلى الله أن يجرد العبد قلبه من كل حظوظها واهوائها ويقبل بكليته إلى ربه عز وجل مستسلما لأمره ونهيه متعلقا قلبه بمحبته وطاعته[30]
ه- تعظيم امره ونهيه دليل على الاستجابة له سبحانه
قال ابن القيّم : ” أوّل مراتب تعظيم الحق عزّ وجلّ : تعظيم أمره ونهيه ، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عزّ وجلّ برسالته التي أرسل بها رسوله إلى كافة الناس ، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه ، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عزّ وجلّ واتباعه ، وتعظيم نهيه واجتنابه ، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي ، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار والمشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر “[31]
المطلب الثاني: مقدمات تأسيسية للنظر في الأمن الأسري:
إن تحقيق الأمن الأسري يحتاج إلى مستويات متعددة من الأمن، متداخلة ومتكاملة، لا يمكن فصل بعضها عن الأخرى، فالأمن العقدي داخل الأسرة يفضي إلى أمن نفسي كما يفضي إلى أمن تربوي واقتصادي وكل ذلك يفضي إلى أمن اجتماعي تنعم به الأسرة ويعود عليها بالخير.لذلك فالسؤال العالق هو:ما هي المرتكزات التي يقوم عليها الأمن في الأسرة؟
يمكن إجمال هذه المرتكزات في ثلاثة وهي :
- مقاصد الأسرة أساس أمنها.
- التماسك الأسري دليل على أمن الأسرة.
- منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد أصل للأمن الأسري.
1- مقاصد الأسرة أساس الأمن الأسري:
تعتبر مقاصد الأسرة أساس الأمن الأسري، فهي أساس للأمن الديني والعقدي وهي جالبة للأمن النفسي وهي ركيزة للأمن الاجتماعي والاقتصادي وهذا ما سنحاوله توضيحه :
أ- مقصد التدين وأمن الأسرة الديني:
نظم الشرع جميع أطوار تأسيس الأسرة بأحكام شرعية تؤكد ضرورة حفظ التدين، فدعا إلى اختيار الزوجين على أساس الدين فقال عليه السلام :(فاظفر بذات الدين تربت يداك )[32] وقال عليه السلام :(إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد عظيم)[33]ونظم العلاقات الأسرية تنظيما محكما ينطلق من أحكام الشرع ويؤول إليها، فنظم علاقات الأزواج في ما بينهم وعلاقات الآباء بالأبناء والأبناء بالآباء ولم يغفل عن علاقات الرحم والقرابة.
إنه تنظيم ينطلق من مصادر الشرع ويرتجي غاياته تحقيقا لمفهوم العبودية لقوله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )[34]فالتدين ضامن للأمن الأسري وحافظ له من كل ما يشوبه من عقبات وإشكالات، ذلك بأن المنهج التديني يجعل الأفراد يستسلمون للأحكام استسلاما مؤسسا على العلم نابعا من الرضا والحب راجين التواب والجزاء الأخروي.وحضوره يجعل من الأدوار الملقاة على الأفراد أعمالا قاصدة مرتبطة بعالم الملكوت،فتنتفي بذلك المصالح الفردية المحضة لترتبط بالمصالح الأخروية كذلك، وعليه فالتدين يولد في النفس المؤمنة الحب الكبير الذي يمنح الأمن الروحي والسعادة الداخلية،ويعصم جميع أفراد الأسرة من الانحرافات العقدية التي قد تعصف بجمع من الشباب الجامح الذي نأى عن الوسطية إلى براثن التطرف والتكفير.
من هنا نقول إن التربية على التدين داخل الأسرة تكرس جميع أنواع الأمن،لتنعم الأسرة بالاستقرار وتنهض لتأدية مهامها الحضارية .
ب- التزكية وأمن الأسرة الأخلاقي:
إن اهتمام الشارع بالباعث النفسي والمبادئ الخلقية والمثل العليا، هدفه تطهير الباعث كي لا يحرك الإرادة إلى تحقيق غايات غير مشروعة تناقض مقاصد الشارع.ويتبين ذلك في ربط الشارع أحكامه بالبعد الأخلاقي.إذ الحكم الشرعي له جانبان، جانب أصولي وجانب أخلاقي، وهذا الوجه الأخلاقي كما أشار إلى ذلك الدكتور طه عبد الرحمان ينحصر في أوصاف ثلاثة:
1- المراقبة المعنوية عن طريق الوازع النفسي للإنسان.
2- ضبط السلوك في باطن أعماله الشيء الذي يعود بالصلاح أو الفساد عليه وعلى غيره.
3- توسل الوجه الأخلاقي بالتعليل الغائي في بيان أحكامه و ترتب بعضها على بعض.
وتأسيسا على ذلك،فنظام الأسرة في الإسلام نظام قيمي يكرس إلى جانب الحق البعد الأخلاقي الذي يجعل من الأسرة أسرة مكارمة لا مشاحة، وبجعل الفرد ينأى عن كل فعل مسيء للآخرين ويعمد إلى ابتغاء الخير والمصلحة لهم.
إن فساد المجتمع أخلاقيا سببه عملية إفساد ممنهجة للأخلاق، تنطلق من الإعلام لتصل إلى الأسرة،فيصبح الأبوان عاجزين عن تربية وتوجيه أبنائهم إلى التربية الأخلاقية،لذلك كان التحصين الأخلاقي الذي ينطلق من الأسرة من أهم المداخل لحفظ أمن الأسرة والمجتمع .
ج – السكن والمودة والرحمة وأمن الأسرة النفسي:
اعتبر الإمام الشاطبي هذا المقصد من المقاصد التبعية للنكاح إذ النكاح عنده مشروع للتناسل بالقصد الأول ويليه طلب السكن والازدواج ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف[35].
وهذا المقصد منصوص عليه في قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)[36]. إن السكن والمودة والرحمة أمر رئيس في بناء الأسرة المسلمة، ومن هنا وجب السؤال عن حقيقة كل منها؟
– السكن:
السكن قيمة معنوية جعلها الله عز وجل أساس أمن الأسر واستقرارها، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها)[37]، هذه القيمة لن تحقق إلا إذا توفرت شروط وجودها والأحكام المفضية إليها، كحق المعاشرة واختصاص الرجل بالمرأة والمساكنة الشرعية،ذلك بأن ما يميز عقد الزواج عن باقي العقود الأخرى هو توفر السكن النفسي لدى الأزواج والأبناء والوالدين، وهذا ما أكده الشيخ محمد شلتوت بقوله:”إن العلاقة الزوجية أسمى من معنى الترابط والاندماج من علاقات الصداقة والأبوة والبنوة، وأنها ليست كما يظن من لا يفهمون حقيقتها ولا يعرفون وضعها في الحياة عقدا كسائر العقود تمراتها في الانتفاع والملك والتسخير”[38].
– المودة:
لقد راعى الإسلام المودة في الأسرة فخص لها من الأحكام ما يقويها ويحفظ ذكرها بدءا بأحكام الخطبة وانتهاء بأحكام الطلاق والعدة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل خاطب لرؤية مخطوبته فقال عليه الصلاة والسلام: “انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما”[39].
وحبب تزويج المتحابين فقال عليه السلام: “لم ير للمتحابين إلا النكاح”[40]. وجاءت نصوص الشرع تؤكد ضرورة المعاشرة بالمعروف سواء أثناء قيام الحياة الزوجية أو حتى بعد انفصام عراها، قال تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)[41]، ووجه الدلالة أن شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان أي دون ضرار في كلتا الحالتين[42].
فالمودة روح تجمع بين أفراد الأسرة تجعل كل واحد منهم يتودد للأخر بقدر ما يقدمه له من خدمة أو إعانة أو مساندة في أوقات الرخاء أو الشدة،وهي روح لا يتصور غيابها داخل الأسرة فإذا غابت انتفى الاستقرار والترابط الأسري بل إن غياب الاستقرار مؤشر حقيقي على غيابها، إذ لا معنى للمودة دون بذل وتكافل وتعاون وإيثار.
إن حصول المودة مآله إلى بناء أسرة آمنة نفسيا ليحصل الدفء الأسري المنشود واللحمة الأسرية المبتغاة فيعيش أفراد الأسرة في أمن و أمان ومحبة ووئام.
– الرحمة:
صفة تبعث على حسن المعاملة[43]وخلق رفيع يجعل كلا من الزوجين يخشى ربه ويراعي ما عليه من حقوق تجاه زوجه.
فالرحمة عنصر من أهم عناصر العشرة بين الزوجين وهي تبقى في حالات الرخاء والشدة وتكون أكثر وضوحا في حالات الشدة[44].
يقول الأستاذ عبد الحليم أبو شقة: “أما إذا فتر الحب فلا بد من الأصل الثاني الذي تقوم عليه الأسرة وهو الرحمة، وهنا يتأكد البحث في الحقوق حتى لا تضيع”[45].
لقد حرص الإسلام على إنشاء علاقات أسرية متينة،فأسسها على أساس التراحم واعتبره أساسا يقوم على رقة تقتضي الإحسان للمرحوم والعطف عليه والحنو بل تقتضي إرادة المنفعة للغير وإعمار القلب بحب الخير والنفع والبدل والعطاء للآخرين[46] وإذا كان عطف الآباء على أبنائهم وابتغاء الخير لهم هو من باب الفطرة التي جبل الإنسان عليها فقد أمر سبحانه وتعالى الأبناء ببر الآباء وخفض الجناح لهم فقال تعالى :(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ِإِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[47].
بل أمر بصيانة علاقات الرحم والقرابة وتوعد كل من عمل على هدمها بأشد العقوبات واعتبر أن قبول الأعمال أو ردها رهين بوصل أو قطع العلاقات قال عليه السلام: “الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله”[48].
إن تربية النشء على قيم التراحم وبناء أسر على صلة الأرحام والعمل على صيانتها يجعل العلاقات الأسرية علاقات متينة يسود فيها التعاون والتكافل بشتى أنواعه، لذلك كان على الأمة الحذر من القيم المجتمعية الدخيلة التي غيرت القيم الأسرية الإسلامية وانتقلت بها من قيم المكارمة إلى المشاحة والمطالبة بالحقوق فقط فنشأ بعد ذلك صراع بين الأزواج وتفكك أسري مرير لازال المجتمع يئن تحت وطأته وأثاره.
وتأسيسا على ما سبق، فالسكن والمودة والرحمة هو أساس لأمن الأسرة النفسي وغيابها هو نقض لعرى الأسرة من أساسها بحيث تفقد الروح التي تجمع أفراد العائلة فيصير الجمع عبارة عن هيكل لا روح فيه.
إن حضور معاني السكن والمودة والرحمة هو ضامن للطمأنينة الأسرية وحافظ لها من كل ما يفتك بها .
د- أمن الأسرة مرتبط بتنظيم مؤسسة الأسرة وماليتها
لم يترك الإسلام الأسرة دون تنظيم مؤسسي يراعي علاقات الأفراد في ما بينهم وينظر إلى كيفية تنظيم علاقاتهم شأنهم في ذلك شأن كل مؤسسة ناجحة تحتاج لحكامة ثاقبة، وعليه،فقد أطر علاقات أفراد الأسرة بمنظومة الحقوق والواجبات، فمنح الحق الأسري على أساس مصلحة الأسرة لا على أساس مصالح الأفراد،كما جعل الحقوق متقابلة، كل حق يقابله واجب ليجعل الفرد يعطي بقدر ما يأخذ. وإذا كانت منظومة الحقوق شاملة لجميع الحقوق التي يحتاجها الإنسان ليعيش حياة سعيدة، فلا شك أنها عنوان للتدبير المؤسسي، فهو تنظيم قائم على القوامة التي تجعل الزوج مسؤولا عن جميع أعباء الأسرة المالية وعلى الحافظية التي تجعل المرأة مسؤولة عن تدبير تلك الموارد المحصلة من غير إسراف و لا تبذير،لذلك فمسؤولية التدبير المالي والمؤسسي ملقاة على عاتق كلا طرفي الأسرة وهي صورة عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها”[49]، وعليه فإن قيام كل فرد بمسؤولياته سبيل استقرار الأسرة بل منطلق لمساهمتها في التنمية َ
وخلاصة القول:فمقاصد الأسرة هي أساس أمنها.
2 -التماسك الأسري دليل على أمن الأسرة:
التماسك مأخوذ من أمسك بمعنى أخذ الشيء،وهو لفظ يستعمل بالمعنى الحقيقي في الدلالة على القوة التي تؤلف الأجزاء الصغيرة من الجسم بعضها إلى بعض،ويستعمل مجازا في وحدة الفكر أو وحدة التعبير التي تجعل جميع عناصر الموضوع متماسكا بعضها ببعض،أما استعماله في علم الاجتماع فهو للدلالة على الرابطة بين الأفراد الذين منهم أي مجتمع[50].
ولكي تتمتع الأسرة بمستوى عال من التماسك لابد من التفاعل الإيجابي بين أعضائها،بحيث يتحسس كل منهم أمال وآلام الأخر، ويشارك بعضهم بعضا في المناسبات العامة وإنجاز الأعمال بطريقة مشتركة،وكل ذلك يحتاج إلى تنشئة إيمانية تدفع الإنسان للعمل الصالح، وتنشئة وجدانية [51]تعنى بتنمية وتهذيب العواطف والمشاعر والأحاسيس والانفعالات والعمل على ضبطها، وتنشئة فكرية تهدف أساسا إلى بناء المفاهيم الإسلامية حول علاقة الإنسان بالحياة والكون وصلته بهما وبخالقه وبجميع المخلوقات،ولذلك فهي تشمل جميع وظائف العقل الإنساني.
كما أن التماسك الأسري دليل على المكارمة التي يشترط وجودها في الأسرة باعتبارها تعبيرا عن الأخلاق والأفعال المحمودة بل وموئل النفع الذي يحصل لجميع أفرادها دون غضاضة لتكون بذلك الدرع الحصينة التي تجمع جميع أفراد الأسرة فتمنعهم من كل يعصف بهم من إشكالات قيمية ونوازل متجددة قد تفتك بهم وبلحمتهم.
من هنا نقول:إن التماسك والترابط الأسري هو بناء لعلاقات متينة داخل الأسرة، فتجد الواحد يفكر في المجموع، والمجموع في الواحد فتنعم الأسرة بالأمن حتما.
3- منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد أصل للأمن الأسري.
ترتكز حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي على ركائز ثلاثة[52] وهي:
- الحق منحة من الله.
- الحق وسيلة لتحقيق مصلحة شرعية.
- استعمال الحق بين سلطة الفرد وسلطان الدولة.
وهي ركائز تعالج أبعادا ثلاثة، وهي البعد المصدري والبعد المقاصدي وبعد استعمال الحقوق.وتتجلى أهميتها في:
– حضور الجانب العقدي والأخلاقي في حقوق الأسرة.
– تستمد حقوق الأسرة أحكامها من مصادر التشريع. فمصادر الحقوق هي نفسها مصادر التشريع،
-حقوق الأسرة منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير. فكل ما ثبت بنص قطعي الدلالة والثبوت فهو حق ثابت. وكل ما ثبت بنص ظني الدلالة والثبوت أو ظني أحدهما فيجوز تغييره تبعا للمصلحة المعتبرة شرعا والواقع المستجد.
- المصالح المرجوة من الحقوق الأسرية هي مصالح شرعية مقيدة بضوابط شرعية وليست مصالح عقلية واقعية.
- استعمال الفرد لحقوقه الأسرية مقيد بضابطين وهما تحقيق مصلحة الأسرة وعدم الإضرار. لذا فكل استعمال لها يخالف مصلحة الأسرة ويروم الإضرار هو عين التعسف.
لا يجوز للدولة تقييد الحقوق الأسرية إذا كانت ثابتة بنصوص قطعية ويجوز لها تقييد المباح منها بشروط تضمن التنزيل الأسلم للأحكام على الواقع وبلوغ مقاصدها الشرعية.
إن منظومة الحقوق الأسرية هي منظومة تؤكد المنهج التعاقدي في الأسرة فلا حق بدون واجب ولا استعمال للحق في مصلحة فردية بل لمصلحة الأسرة لذلك فهي أساس لتثبيت الأمن داخل الأسرة.
فالأسرة الذي يسود فيها العدل وتعرف فيها الحقوق وتؤدى فيها الواجبات أسرة تتسم بالثبات والاستقرار حيث تسكن النفوس وتطمئن القلوب وتهدأ الضمائر فتحصل الطمأنينة والأمن.
المبحث الثالث: أثر تعظيم الله في تحقيق الأمن الأسري
إن تحقيق الأمن الأسري من جهة تعظيم الله تعالى يحتاج إلى النظر في علاقة كل جهة من جهات التعظيم مع أسس ومرتكزات تحقيق الأمن،لذلك سنبين في هذا المبحث مدى تمكن الجهات الأربع من تحقيق أسس ومرتكزات الأمن والمتمثلة في تحقيق المقاصد و التماسك و تنظيم الحقوق وتكريس مفاهيم التعاقد.
-
أثر تعظيم الله في تحقيق مقاصد الأسرة
لمناقشة أثر تعظيم الله تعالى في تحقيق مقاصد الأسرة نقف عند أثر كل جهة من جهات التعظيم في تحقيق المقاصد الأسرية
أ- معرفة الله تعالى وأثرها في تحقيق مقاصد الأسرة
لا شك أن معرفة الله بأسمائه وصفاته لها دور كبير في تحقق مقاصد الأسرة ،إذ معرفته سبحانه تورث المؤمن حب كل فضيلة وتزجره عن مقارفة كل رذيلة ،فمن عرف الله بإحسانه وعطائه ،وعرف الله بعدله وأحكامه ،ازداد أدبا وخشية .
يقول العز بن عبد السلام :أفضل أوصاف الإنسان العرفان ،وأفضل العرفان معرفة الديان لأمرها بكل إحسان [53]
إن مقصد التدين يحصل بمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته
يقول شيخ الإسلام بن تيمية :من عرف أسماء الله ومعانيها فامن بها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل أمن بها ايمانا مجملا أو عرف بعضها ،وكلما ازداد الانسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته كان إيمانه به أكمل [54]
و السكن والطمأنينة يستمد من معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته
يقول بن القيم في الروح :وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة :أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله …….فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الايمان يأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش فيطمئن إليه ويسكن إليه ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله [55]
وتدبير مؤسسة الأسرة وماليتها وابتغاء النسل انما يحصل لمن توكل على الله وسلم الأمر إليه لقوله تعالى :)وعلى الله فتوكلوا ( [56] وقوله تعالى: )قل هو الرحمن امنا به وعليه توكلنا ([57]
والذي نخلص إليه أنه كلما زاد حظ الفرد من أسماء الله تعالى كان لذلك أثر على سلوكه وكلما تغير سلوك الفرد نحو الخير كان تحصيل مقاصد الأسرة واقعا ملموسا ،ليتبين الارتياط الوثيق بين معرفة الله تعالى وبين تحقق مقاصد الأسرة .
-
تعظيم النص وأثره في تحقيق مقاصد الأسرة
فصل القران الكريم أغلب أحكام الأسرة تفصيلا على عكس ما هو معهود في أغلب الأحكام الأخرى ،حيث فصل أحكام الزواج والطلاق والعدة والرجعة والإرث وغيرها ،وجعل لتلك الأحكام مقاصد شاملة لجميع مصالح الناس أفرادا وجماعات، فضمن للفرد مصالحه داخل الأسرة سكينة وتزكية ومودة ورحمة، وللجماعة مصالحها تأهيلا للنشأ وتقوية للروابط الاجتماعية وامتدادا لأواصر التكافل والتعاون،
يقول الأستاذ عبد المجيد النجار، فهذا الخطاب القرآني المطرد في شؤون الأسرة لجماعة المسلمين وليس لأفراد الأسرة يدل على أن في أحكام الأسرة مقصدا اجتماعيا[58].
لذا يشترط في بلوغ مقاصد الأسرة ومصالحها عدم معارضتها للنص خاصة إذا كان النص قطعيا يقول الشيخ أبو زهرة: “إن المصلحة ثابتة حيث وجد النص، فلا يمكن أن تكون هناك مصلحة مؤكدة أو غالبة والنص قاطع يعارضها”[59].
أما إذا كان النص ظنيا فيكون الاجتهاد فيه قائما على حصر كل تلك المعاني والأحكام وتحديد أقربها إلى المراد الإلهي وأنسبها للمصلحة المشروعة ولا يجوز قطعا أن تعارض المصلحة جميع مدلولات النص الظني لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تماما[60].
من هنا نقول : إن تعظيم الله تعالى بتعظيم النص الشرعي الحامل لأحكام الأسرة سبب أصيل من أسباب تحقق المقاصد الأسرية،وعليه،فتجاوز النصوص لصالح المصلحة الواقعية هو هدم للأسرة وثوابتها، فنخلص إذن إلى أن المصلحة المقصودة هي تلك المصالح المنضبطة بضوابط الشرع وليس من تقدير العقل أو الوا قع.
- التعظيم من جهة فعل المكلف وأثره في تحقيق مقاصد الأسرة
يعتبر التعظيم من جهة فعل المكلف مظهرا من مظاهر تحقق مقاصد الأسرة ،ذلك بأن توحيد الله والاعتراف بوحدانيته أساس لتحقيق مقصد التدين كما أن الشكر له يجعل العبد يصرف نعمه وفق ما أمر به سبحانه، فيحسن لزوجه وأبنائه فتتحقق المودة والرحمة بل إن الافتقار إلى لله تبلغ بالعبد مدارج الكمال فلا يدبر أسرته إلا وفق ما يريده الله تعالى فيستجيب لأوامره وينتهي عما نهى عنه.
إن مظاهر تعظيم الله تعالى من جهة فعل المكلف تخدم المقاصد الأسرية من جانب الوجود ومن جانب العدم ،فهي تجعل الفرد داخل أسرته سباقا لتحقيقها منتهيا عن كل ما يهدمها ،إذ لا فائدة في توحيد الله وشكر نعمه والاستجابة لأوامره دون أن يكون لذلك أثر في أسرته .
- كتاب الله المنظور وأثره في تحقيق مقاصد الأسرة
يعد التغير الاجتماعي سنة من السنن الكونية وعملية طبيعية، تعيشها المجتمعات بصفة دائمة ومستمرة، فلا يوجد مجتمع دون تغير وتطور وتفاعل ثقافي مع المجتمعات الأخرى، ونتيجة لذلك فإن مسؤولية الأسرة تتمثل في غرس القيم التي تستمدها من عقيدتها لا من التي تصدر إليها،من هنا نقول: إن العامل الديني الذي ينطلق من معرفة الله عن طريق التفكر في الكون واستخراج سننه الكونية والاجتماعية سبيل لتحقيق مقاصد الأسرة ،حيث أكدت أغلب الدراسات الاجتماعية أن الغفلة عن التدين تؤدي إلى انهاير تماسك الأسرة كما أن غياب المودة والرحمة وعدم تحمل مسؤولية الأسرة قد يفضي إلى تفككها ، لذلك يعد -تحصين الأسرة والمجتمع وغرس القيم الإسلامية النبيلة في نفوس الناشئة من جهة وعلى رأسها معرفة الله تعالى، وتحديد الآليات التي تضبط آثار التغير الاجتماعي السريع وتحد من آثاره الجانبية أو التخفيف من حدتها من جهة أخرى- أمرا واجبا كي تصل الأسرة إلى مقاصدها التي رسمها الشرع
- أثر تعظيم الله في دعم التماسك الأسري
نكشف في هذا المطلب عن أثر كل جهة من جهات التعظيم في دعم التماسك الأسري
أ- معرفة الله تعالى وأثرها في دعم التماسك الأسري
التماســك الأســري هو عملية اجتماعية تدعم البناء الاجتماعي للأسرة وتمكن من ترابط أجزائه من خلال الروابط و العلاقات الاجتماعية ،وهو عملية لا يمكن أن تنجح إلا بوجود عامل ديني يحفز الترابط بين جميع أفراد الأسرة.وعليه فالمعرفة الحَقَّة بأسماء الله وصفاته.تثمر قيما فاضلة من أمانة وصدق وإخلاص وحب وبر ، وهي -عامل ضابط في حياة الفرد وسلوكه- تسهم في صياغة الشخصية المتماسكة، كما تسهم في تحقيق تماسك الأسرة وتكامل أفرادها، فالشعور بالترابط والتقارب والألفة والقوة. يستمد من أسمائه سبحانه،فحظ العبد من اسم الرحيم أن لا يدع فاقة لمحتاج إلا يسدها بقدر طاقته ولا يترك فقيرا في جواره وبلده إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره إما بماله أو بجاهه أو السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره فإن عجز عن ذلك فيعينه بالدعاء وإظهار الحزن بسبب حاجته رقة عليه وعطفا حتى كـأنه مساهم له في ضره وحاجته [61]
وحظ العبد من اسم المؤمن أن يأمن الخلق كلهم جانبه بل يرجو كل خائف الاعتضاد به في دفع الهلاك عن نفسه في دينه ودنياه [62]ولا شك أن حظ الفرد من أسماء الله كثير كلها تجعل الفرد مرتبطا بأسرته تواقا لخدمتها وخدمة أفرادها فيحصل الأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة.
ب- تعظيم النص ودوره في دعم التماسك الأسري
أكدت كثير من النصوص الشرعية على وجوب البر بالوالدين وصلة الأرحام وتقديم الأقارب بالعطاء.
ومن ذلك قول الله تعالى: “وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ”[63]، وقوله تعالى: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى”[64] وقوله تعالى :”وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ”[65]
إن الإحسان للأباء والأقارب واجب يلتزم به المؤمن بالله تعالى المعظم لكتابه، فيصل قريبه بالمعروف، وببذل الجاه والنفع البدني والمالي، بحسب ما تتطلبه قوة القرابة والحاجة،لمـا فـي ذلـك من أهمية بالغة في بناء المجتمع القوي المتماسك؛ فالتآلف والتـرابط بـين أفـراد المجتمـع بصفة عامة، وبين ذوي القربى والأرحام بصفة خاصة، من أهم الـدعائم اللازمـة لـصلاح المجتمع .
ج- فعل المكلف المطالب بالتعظيم وأثره في دعم التماسك الأسري
لا يمكن أن نتحدث عن تعظيم الله دون مظاهر تظهر على القلب والجوارح ، ،فالمشاعر والعواطف النبيلة التي تنقذف في صدر الفرد هي أساس اللحمة الأسرية والمساندة في الأوقات الصعبة هي التعبير الصادق عن المحبة .
إن المعظم لله تعالى ترى مشاعره فياضة اتجاه ربه وعباده بل واتجاه أسرته، يريد الخير لهم فيسعد لسعادتهم ويحزن لحزنهم ،و يساهم قدر الإمكان في اسعاد الآخرين .
إن أثر تعظيم الله تعالى من جهة المكلف جلي على تماسك الأسرة ،فلا يزيدها إلا ارتباطا وحبا ولا يزيدها إلا تماسكا .
د- أثر تعظيم الله تعالى من جهة كتابه المنظور في دعم التماسك الأسري
تؤكد أغلب الدراسات الاجتماعية أن غياب التدين له أثر سلبي على تماسك الأسرة، ، ففي دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع معهد غوتماشر ونُشِرت في مجلة لانست سبتمبر 2017 – فإن ما يقرب من 25 مليون حالة إجهاض غير مأمون (45٪ من إجمالي حالات الإجهاض) كل عام في الفترة بين عامي 2010 و2014 وفي دراسة أخرى أنه ولد أكثر من 5.1 مليون طفل خارج مؤسسة الزواج في الاتحاد الأوروبي في العام 2016. ليتأكد أن البعد عن الله وأحكامه يؤدي إلى مشاكل أخلاقية تعود بالسلب على تماسك الأسرة ،وليتأكد أهمية تعظيم الله ومراقبته في الحفاظ على الأسرة واستقرارها .
- أثر تعظيم الله في بناء منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد
نكشف في هذا المطلب عن أثر كل جهة من جهات التعظيم في بناء منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد
– أثر معرفة الله في بناء منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد
من أهم الأصول التي تقوم عليها فلسفة الحق في المنظور الإسلامي اعتبار الحق منحة من الله وليس وليد الطبيعة أو الذات أو الجماعة، وعليه فمعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته لها أثرها في بناء منظومة الحق الأسري يتجلى ذلك في ما يلي :
– نفي الهوى والعبث عن مفهومه:
ذلك بأن جعل الحاكمية لله تسد مداخل الهوى التي قد تنفذ في تقرير الحقوق، يقول الإمام الشاطبي: “وأما تحريم الحلال وتحليل الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد، فليس لهم فيها تحكم إذ ليس للعقول تحسين وتقبيح تحل به أو تحرم، فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله نصيب ولذلك لم يكن لأحد فيه الخيرة”([66]).
– عدم التعسف
إن إرجاع الحقوق إلى الله تنمي الضابط الداخلي والمتمثل في الرقابة الذاتية، تلك الرقابة التي تمنع التعسف وتسهم في بناء روح التعاون والتكافل بين الناس، وتجعل أواصر المحبة بين الناس ركيزة أساسية في بناء المجتمع.
– استعمال الحق منوط بتحقيق المصلحة الشرعية:
إن أي حق لا يروم تحقيق المصلحة الشرعية يعتبر لاغيا، فالحقوق وما تستلزم من أعمال وتصرفات هي وسائل لغايات، هي المعاني أو المصالح التي يتوخاها الشرع من تقدير تلك الحقوق: يقول الشاطبي: “إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة، فهو الواضع لها مصلحة وإلا فكان يمكن عقلا ألا تكون كذلك”([67]).
فإذا كان الشرع هو مانح الحق، وهو الذي رسم المصالح التي يجب أن يرومها فإن أي مناقضة في تحقيق ذلك يؤدي إلى تعسف في استعماله.
والذي نخلص إليه بأن معرفة الله تعالى تجعل المؤمن يستعمل الحق الأسري وفق الضوابط الشرعية التي تهدف إلى تحقيق مصالح الأسرة .
- أثر تعظيم النص في بناء منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد
مصدر الحق في الشريعة الإسلامية هو مصدر الحكم الشرعي، وعليه، لا يوجد حق شرعي دون دليل عليه. لذلك فقد دلت كثير من الآيات على ضرورة الالتزام والوفاء بالحقوق الأسرية استجابة لندائه ورجاء في ثوابه وحذرت من الاعتداء عليها والتعسف فيها، ومن ذلك قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}[68]. يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: “وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس لأن الأحكام الشرعية تفصل الحلال والحرام والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام وما هو عليه بعده[69].
ج- أثر تعظيم الله من جهة فعل المكلف في بناء منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد
إن تعظيم الله من جهة فعل المكلف يجعل الإنسان يتصرف في حقه الأسري وفق ما شرعه الله ووفق المقاصد التي رسمها الشارع، فالعبد أثناء استعماله لحقه يرجو بذلك الاستجابة لأمر الله وتحقيق الثواب.
يقول الإمام الشاطبي: “ولو كانت أوامر الله من حيث هي حقا للعبد لصح الثواب عليها بدون نية لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية، وأيضا لو حصل الثواب بغير نية لأثيب الغاصب، إن أخذ منه المغصوب كرها، وليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد، فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا كان جاريا في كل فعل وترك ثبت أن في الأعمال الملكف بها طلبا تعبديا على الجملة”([70]).
إن تعظيم الله من جهة فعل المكلف تجعل حقوق الأسرة مسيجة بسياج من القيم الأخلاقية لتسهم في بناء وتنمية معاني التضحية والعطاء، والإخلاص في العلاقات الأسرية[71]، بل تجعل من حقوق الأسرة لا تقوم على فكرة الصراع بحيث ينصرف هدف أفرادها إلى المطالبة بالحقوق فقط بل تقوم على التسامح والإيثار وتجعل من السمو الخلقي والكمال النفسي ركنا ركينا في بنائها.
إن مراقبة الله في استعمال حقوق الأسرة لها أهمية كبرى تتجلى في الحد من النظرة الفردية للحقوق والتي تؤول حتما إلى التعسف في استعمالها لهذا فاستبعادها له مخاطر عديدة تظهر في تنمية الجانب الفردي وتكريس الروح المادية وإغفال الجانب الاجتماعي في استعمال الحقوق، وهو مخالف للمنهج الإسلامي الذي ينطلق من اعتبار الحق الفردي حقا مزدوجا يروم المصلحة الفردية والجماعية معا.
د- معرفة كتاب الله المنظور في بناء منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد
إن الناظر في الدعوات الحداثية لتغيير الحقوق الأسرية يتأكد له بأنها حقوق لا تقوم على أساس عقدي، فلا مطمع في ثواب أخروي ولا في جزاء أو عقاب، فالكل مقيد بالزمان والمكان.
إن استبعاد البعد الأخروي من منظومة الحقوق الأسرية الحداثية وتكريس الواقع المعيش في استنباط أحكامها، جعل منها حقوقا دنيوية، تهدف إلى تنظيم علاقات أفرادها وفق قيم السائدة في المجتمع دون مراعاة للبعد الديني، فأدى ذلك إلى تغليب الجانب المادي على الجوانب الأخرى، يقول الأستاذ “طه عبد الرحمان” متحدثا عن الأسرة ما بعد الحداثية[72]: “فلكل فرد منهم الحق في أن يطلب ما يرغب فيه وأن يفعل ما يعجبه كأن ذاته لا تتحقق وتتفتح إلا بالرغبة والإعجاب، ولذا فهو يتولى تحديد رغباته وتنظيمها بحسب ما يراه نافعا وصالحا لوجوده داخل الأسرة متى ترغب في بقائها وإلا فبيده أمر حلها[73].
ويؤكد ذلك الأستاذ “عبد الوهاب المسيري” رحمه الله بقوله: “فالإنسان الذي يتحدثون عن حقوقه هو وحدة مستقلة بسيطة كمية أحادية البعد غير اجتماعية وغير حضارية لا علاقة له بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية هو مجموعة من الحاجات المادية البسيطة المجردة التي تحددها الاحتكارات وشركة الإعلانات والأزياء وصناعات اللذة والإباحية[74].
إن تغليب دنيوية حقوق الأسرة على حساب البعد الأخروي أدى إلى ظهور نوع من الصراع بين أفرادها، خاصة بين دعامتيها وهما الرجل والمرأة، فظهرت حركة التمركز حول الأنثى لمناصرة قضايا المرأة، وبرزت للوجود جمعيات تنادي بضرورة تجريد الرجل من سلطاته داخل الأسرة، وأخرى تدعو إلى الانتقال من الأسرة الأبيسية إلى أسرة يتساوى فيها الطرفان المؤسسان لها.
يقول الأستاذ “عبد الوهاب المسيري”: “والهدف الأساسي لحركة التمركز حول الأنثى في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير هو رفع وعي النساء بأنفسهن وتحسين أدائهن في المعركة مع الرجال وتسييسهن لا بالمعنى الشائع المتداول أي أن يدرك الإنسان الأبعاد السياسية للظواهر المحيطة به ولحقوقه وواجباته السياسية وإنما بمعنى أنه يدرك أن كل شيء إنما هو تعبير عن هذا الصراع الكوني بين الذكور والإناث[75].
والذي نخلص إليه أن غياب البعد الديني والذي يعتبر تعظيم الله تعالى رأس الامر فيه هو غياب للأمن الأسري.
خاتمة
ما أحوج الأسرة اليوم إلى أمن ينعم به أفرادها في ظل تحديات مجتمعية أصبحت تعصف باستقرارها ولحمتها ،وإذ لا خلاف في أن تحقيق الأمن يحتاج إلى مداخل متعددة فإني أعتقد أن البعد الديني والذي يأتي في مقدمته تعظيم الله تعالى هو المدخل الأول الذي يجب أن نركز عليه
من هنا جاء البحث ليكشف عن دور تعظيم الله تعالى في تحقيق الأمن الأسري
وقد خلص إلى ما يلي :
- إن تعظيم الله تعالى يشمل مداخل عدة يشد بعضها بعضا فينبني من المجموع مفهوم التعظيم وهي
- تعظيم الله تعالى من جهة معرفته سبحانه،
- تعظيم الله تعالى من جهة النص الشرعي
- تعظيم الله تعالى من جهة الدلائل الدالة على التعظيم من غير النص
- تعظيم الله تعالى من جهة فعل المكلف
- يقوم أمن الأسرة على مرتكزات ثلاثة وهي :
- مقاصد الأسرة أساس أمنها.
- التماسك الأسري دليل على أمن الأسرة.
- منظومة الحقوق ومفاهيم التعاقد أصل للأمن الأسري
إن الناظر في جهات تعظيم الله تعالى الأربع وفي مرتكزات الأمن الأسري يلحظ دور الجهات الأربع في تحقيق المرتكزات الثلاثة حيث تشكل معرفة الله تعالى أساسا رئيسا في تحقيق المقاصد والتماسك وتثبيث الحقوق كما أن تعظيم النص هو الأساس الذي يستقي منه المعظم لله أحكام أسرته فلا يغتر بالعقل وحده كما أن النظر في الآفاق ومايحدث من تغيرات قيمية بسبب البعد عن الدين تجعل المعظم لله يستجيب لأوامره وينتهي عما نهى عنه، لنخلص أن تحقيق الأمن له ارتباط وثيق بتعظيم الله تعالى إذ هو الروح التي تمكن من تحقيق جميع مرتكزاته .
توصيات
التركيز على دور تعظيم الله تعالى في تحقيق الأمن الأسري في المقرات الدراسية.
تنظيم دورات تكوينية تبين أهمية تعظيم الله تعالى في تحقيق الأمن الأسري.
المصاد والمراجع
الاجتهاد المقاصدي حجيته وضوابطه، مجالاته نور الدين الخادمي كتاب الأمة رقم 65 ط 1 1413/1998
الأدب المفرد البخاري دار الصديق للنشر والتوزيع ط 4
إحياء علوم الدين الغزالي دار المعرفة بيروت
الأمن رسالة الإسلام جميل بن عبيد القرارعة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن سنة2005
الأمن الفكري إطار مقاصدي إبراهيم أحمد محمد صادق الكاروري المركز العالمي للدراسات الدعوية والتدريب
الإسلام عقيدة وشريعة، محمد شلتوت،.دار القلم القاهرة
– أصول الفقه، الشيخ أبو زهرة، ، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، د ط أو سنة النشر
لسان العرب لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري دار صادر بيروت
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ابن القيم الجوزية دار الكتاب العربي ط2 1973
الموافقات في أصول الشريعة، إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي دار الكتب العلمية بيروت 1991.
موسوعة أسماء الله الحسنى محمد راتب النابلسي دار المكتبي ط 5 2008
معجم العلوم الاجتماعية إبراهيم مذكور وآخرون ،الشعبة القومية للتربية والعلوم والثقافة يونسكو الهيئة المصرية للكتاب 1975
المقصد الأسنى في شرح معاني اساء الله الحسنى دار بن حزم ط 2003
المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،
مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، عبد المجيد النجار، ص 163، دار الغرب الإسلامي، ط1، 2006.
مختصر منهج القاصدين ابن قدامة المقدسي المكتب الإسلامي ط 7 2000
نظرية الحق وتطبيقاها في أحكام الأسرة الدكتور حميد مسرار دار الكتب العلية لبنان سنة 2013
سنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد أبي عبد الله القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر بيروت
سنن الترمذي وهو الجامع الصحيح للإمام أبي عيسى محمد ابن عيسى بن سورة الترمذي، ضبطه عبد الرحمان محمد عثمان دار الفكر ط1 1374هـــ.1964م
العين الخليل بن أحمد الفراهيدي دار الهلال بغداد 1985 تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي
الفتاوى ابن تيمية تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعوديةعام النشر: 1416هـ/ 1995
صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان ط2 1972م.
الصارم المسلول على شاتم الرسول بن تيمية الحراني تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميدالناشر: الحرس الوطني السعودي سنة النشر: 1403 – 1983
الروح لابن القيم دار عالم الفوائد 1432ه
الحداثة طه عبد الرحمان المركز الثقافي العربي طبعة 1 /2006 م الدار البيضاء المغرب.
الرسالة للشافعي تحقيق أحمد شاكر مكتبة الحلبي مصر ط1 1940
شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال العز بن عبد السلام دار الكتب العلمية لبنان
التوقيف على مهمات التعاريف محمد عبد الرؤوف المناوي عالم الكتب ط1
التحرير والتنوير محمد الطاهر بن عاشور دار سحنون تونس
تحرير المرأة في عصر الرسالة عبد الحليم أبو شقة، ، دار القلم، الكويت
التراحم بين الناس في السنة النبوية عبد اللطيف الجيلاني منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء-الرباط، سلسلة دراسات وأبحاث
. غذاء االالباب في شرح منظومة الآداب السفاريني مؤسسة قرطبة 2/556
مجلة المنعطف، عدد 15/16، 1420/2000، وجدة.
الميادين مجلة الدراسات العلمية في حقول المعرفة الحقوقية والسياسية والقانونية والاقتصادية بوجدة العدد 3 / 1988
[1] مقال أزمة الطب النفسي بالمغرب مستشفى سيدي احساين للأمراض العقلية والنفسية بورزازات جريدة الاتحاد الاشتراكي 14/11/2011
[2]القلق وعلاقته بالاكتئاب عند المراهقين دراسة ميدانية ارتباطيه لدى عينة من التلاميذ دانيا الشبؤون ص 763 مجلة جامعة دمشق الجلد 27 العدد 3 4 2011
لسان العرب لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري دار صادر بيروت 10/200[3]
[4] الصارم المسلول على شاتم الرسول بن تيمية الحراني تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميدالناشر: الحرس الوطني السعودي سنة النشر: 1403 – 1983ص 369
التوقيف على مهمات التعاريف محمد عبد الرؤوف المناوي عالم الكتب ط1 ص 63[5]
[6]– لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري دار صادر – بيروت4/19
العين الخليل بن أحمد الفراهيدي دار الهلال بغداد 1985 تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي 8/388[7]
الأمن رسالة الإسلام جميل بن عبيد القرارعة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن سنة2005ص 14[8]
[9]الأمن الفكري إطار مقاصدي إبراهيم أحمد محمد صادق الكاروري المركز العالمي للدراسات الدعوية والتدريب ص 28-29
[12] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ابن القيم الجوزية دار الكتاب العربي ط2 1973 2/495
شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال العز بن عبد السلام دار الكتب العلمية لبنان ص 20- 21 [13]
[14] موسوعةأسماء الله الحسنى محمد راتب النابلسي 1/22 دار المكتبي ط 5 2008
[15] الفتاوى لابن تيمية تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعوديةعام النشر: 1416هـ/ 1995 8/246
[16] نفسه 2 /226-227
الرسالة للشافعي تحقيق أحمد شاكر مكتبة الحلبي مصر ط1 1940 ص 81[18]
[19] إحياء علوم الدين الغزالي دار المعرفة بيروت 4/423
[20] سورة ال عمران الآية 137
[21] سورة الأعراف الآية 185
[22] سورة الذاريات الاية 21
[23] سورة النحل الآية 36
[24] سورة الأنبياء الآية 25
[25] سورة الزمر الآية 64
[26] مدارج السالكين دار الكتاب العربي ط 2 1973 2/171
[27] مختصر منهج القاصدين ابن قدامة المقدسي المكتب الإسلامي ط 7 2000 ص 277
[28] غذاء االالباب في شرح منظمومة الآداب السفاريني مؤسسة قرطبة 2/556
[29] مدارج السالكين 2/440
[30] نفسه 2/440
[32]– صحيح مسلم كتاب الرضاع باب استحباب نكاح ذات الدين رقم 3708.
[33]– سنن الترمذي كتاب النكاح باب ما جاء في فضل التزويج و الحث عليه رقم 1084.
[34]– سورة الذاريات الآية 56.
[35]– الموافقات لشاطبي، ص 2/101.
[36]– سورة الروم، الآية 20.
[37]– سورة الروم، الآية 20.
[38]– الإسلام عقيدة وشريعة، محمد شلتوت، ص 147.دار القلم القاهرة
[39]-سنن الترمذي كتاب النكاح باب ما جاء في النظر في المخطوبة رقم 1087
[40]– سن ابن ماجة، كتاب النكاح، باب ما جاء في فضل النكاح، رقم 593/1.1847.
[41]– سورة البقرة، الآية227.
[42]– التحرير والتنوير، 2/334.
[43]– التحرير والتنوير محمد الطاهر بن عاشور دار سحنون تونس ، 10/72.
[44]– المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 413.
[45]– تحرير المرأة في عصر الرسالة عبد الحليم أبو شقة، ، دار القلم، الكويت. 163/5
[46] – التراحم بين الناس في السنة النبوية عبد اللطيف الجيلاني منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء-الرباط، سلسلة دراسات وأبحاث(1)، ص17.
[47]– سورة الإسراء الآية 23 -25.
[48]– صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب صلة الرحم و تحريم قطيعتها رقم 6683.
49- الأدب المفرد البخاري: باب الرجل راع في أهله دار البشائر الإسلامية – بيروت.
[50]معجم العلوم الاجتماعية إبراهيم مذكور وآخرون ،الشعبة القومية للتربية والعلوم والثقافة يونسكو الهيئة المصرية للكتاب 1975ص 179
[51]يعرف عبد العزيز الخولي التربية الوجدانية بأنها التربية الموجهة من الله تعالى ورسوله لتغيير وجدان المسلم تغييرا يتفق والأهداف المرتبطة بالرسالة الخاتمة والدور الذي يقوم به المسلمون أفرادا وجماعات في حمل منهج الله إلى خلقه وهي التربية التي تتناول العواطف والانفعالات خاصة والتكوين الوجداني عامة الفكر التربوي العربي الإسلامي الأصول والمبادئ عبد العزيز الخولي المنطقة العربية للثقافة والعلوم تونس 1987 ص 503 504
[52] نظرية الحق وتطبيقاها في أحكام الأسرة الدكتور حميد مسرار دار الكتب العلية لبنان سنة 2013
[53] شجرة الأحوال والمعارف ص 16
[54] مجموع الفتاوى 7/233
[55] الروح لابن القيم دار عالم الفوائد 1432ه ص 221
[56] سورة المائدة الاية23
[58] – مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، عبد المجيد النجار، ص 163، دار الغرب الإسلامي، ط1، 2006.
[59] – أصول الفقه، الشيخ أبو زهرة، ص 395، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، د ط أو سنة النشر.
[60] – الاجتهاد المقاصدي حجيته وضوابطه، مجالاته نور الدين الخادمي كتاب الأمة رقم 65 ط 1 1413/1998 2 /38
[61] المقصد الأسنى في شرح معاني اسماء الله الحسنى دار بن حزم ط 2003 ص 62-64
[62] نفسه ص 71 -72
[63] سورة الإسراء الاية 26
[64] سورة النساء الاية 36
[65] سورة البقرة الاية 83
[66] – نفسه، 2/285.
[67] – الموافقات، 8/239.
[68] – سورة البقرة، الآية 229.
[69] – التحرير والتنوير، الشيخ الطاهر بن عاشور، 2/318.
[70] – الموافقات: 2/317.
[71] – الميادين، مجلة الدراسات العلمية في حقوق المعرفة الحقوقية والسياسية والقانونية والاقتصادية بوجدة، فاروق النبهان، ص 74، مقال تحت عنوان: أهمية مراعاة القيم الإسلامية في قوانين الأحوال الشخصية.
[72] – اعتبر أن الأسرة ما بعد الحداثية هي امتداد للأسرة الحداثية.
[73] – روح الحداثة، طه عبد الرحمان، ص 122.
[74] – مقال، ما بين حركة المرأة وحركة التمركز حول الأنثى، رؤية معرفية، عبد الوهاب المسيري، ص 84، مجلة المنعطف، عدد 15/16، 1420/2000، وجدة.
[75] – نفسه، ص 84.